سورة الحجر - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحجر)


        


{وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)}
علم أنه تعالى لما شرح الدلائل السماوية في تقرير التوحيد أتبعها بذكر الدلائل الأرضية، وهي أنواع:
النوع الأول: قوله تعالى: {والأرض مددناها} قال ابن عباس بسطناها على وجه الماء، وفيه احتمال آخر، وذلك لأن الأرض جسم، والجسم هو الذي يكون ممتداً في الجهات الثلاثة، وهي الطول والعرض والثخن، وإذا كان كذلك، فتمدد جسم الأرض في هذه الجهات الثلاثة مختص بمقدار معين لما ثبت أن كل جسم فإنه يجب أن يكون متناهياً وإذا كان كذلك كان تمدد جسم الأرض مختصاً بمقدار معين مع أن الإزدياد عليه معقول، والانتقاص عنه أيضاً معقول، وإذا كان كذلك كان اختصاص ذلك التمدد بذلك القدر المقدر مع جواز حصول الأزيد والأنقص اختصاصاً بأمر جائز وذلك يجب أن يكون بتخصيص مخصص وتقدير مقدر، وهو الله سبحانه وتعالى.
فإن قيل: هل يدل قوله: {والأرض مددناها} على أنها بسيطة؟
قلنا: نعم لأن الأرض بتقدير كونها كرة، فهي كرة في غاية العظمة، والكرة العظيمة يكون كل قطعة صغيرة منها، إذا نظر إليها فإنها ترى كالسطح المستوي، وإذا كان كذلك زال ما ذكروه من الإشكال، والدليل عليه قوله تعالى: {والجبال أَوْتَاداً} [النبأ: 7] سماها أوتاداً مع أنه قد يحصل عليها سطوح عظيمة مستوية، فكذا هاهنا.
النوع الثاني: من الدلائل المذكورة في هذه الآية قوله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رواسي} وهي الجبال الثوابت، واحدها راسي، والجمع راسية، وجمع الجمع رواسي، وهو كقوله تعالى: {وألقى فِي الأرض رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15] وفي تفسيره وجهان:
الوجه الأول: قال ابن عباس: لما بسط الله تعالى الأرض على الماء مالت بأهلها كالسفينة فأرساها الله تعالى بالجبال الثقال لكيلا تميل بأهلها.
فإن قيل: أتقولون إنه تعالى خلق الأرض بدون الجبال فمالت بأهلها فخلق فيها الجبال بعد ذلك أو تقولون إن الله خلق الأرض والجبال معاً.
قلنا: كلا الوجهين محتمل.
والوجه الثاني: في تفسير قوله: {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رواسي} يجوز أن يكون المراد أنه تعالى خلقها لتكون دلالة للناس على طرق الأرض ونواحيها لأنها كالأعلام فلا تميل الناس عن الجادة المستقيمة ولا يقعون في الضلال وهذا الوجه ظاهر الاحتمال.
النوع الثالث: من الدلائل المذكورة في هذه الآية قوله تعالى: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ شَيء مَّوْزُونٍ} وفيه بحثان:
البحث الأول: أن الضمير في قوله: {وَأَنبَتْنَا فِيهَا} يحتمل أن يكون راجعاً إلى الأرض وأن يكون راجعاً إلى الجبال الرواسي، إلا أن رجوعه إلى الأرض أولى لأن أنواع النبات المنتفع بها إنما تتولد في الأراضي، فأما الفواكه الجبلية فقليلة النفع، ومنهم من قال: رجوع ذلك الضمير إلى الجبال أولى، لأن المعادن إنما تتولد في الجبال، والأشياء الموزونة في العرف والعادة هي المعادن لا النبات.
البحث الثاني: اختلفوا في المراد بالموزون وفيه وجوه:
الوجه الأول: أن يكون المراد أنه متقدر بقدر الحاجة.
قال القاضي: وهذا الوجه أقرب لأنه تعالى يعلم المقدار الذي يحتاج إليه الناس وينتفعون به فينبت تعالى في الأرض ذلك المقدار، ولذلك أتبعه بقوله: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا معايش} لأن ذلك الرزق الذي يظهر بالنبات يكون معيشة لهم من وجهين:
الأول: بحسب الأكل والانتفاع بعينه.
والثاني: أن ينتفع بالتجارة فيه، والقائلون بهذا القول قالوا: الوزن إنما يراد لمعرفة المقدار فكان إطلاق لفظ الوزن لإرادة معرفة المقدار من باب اطلاق اسم السبب على المسبب قالوا: ويتأكد ذلك أيضاً بقوله تعالى: {وَكُلُّ شَيء عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد: 8] وقوله: {وَإِن مّن شَيء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} [الحجر: 21].
والوجه الثاني: في تفسير هذا اللفظ أن هذا العالم عالم الأسباب والله تعالى إنما يخلق المعادن والنبات والحيوان بواسطة تركيب طبائع هذا العالم، فلابد وأن يحصل من الأرض قدر مخصوص ومن الماء والهواء كذلك، ومن تأثير الشمس والكواكب في الحر والبرد مقدار مخصوص، ولو قدرنا حصول الزيادة على ذلك القدر المخصوص، أو النقصان عنه لم تتولد المعادن والنبات والحيوان فالله سبحانه وتعالى قدرها على وجه مخصوص بقدرته وعلمه وحكمته فكأنه تعالى وزنها بميزان الحكمة حتى حصلت هذه الأنواع.
والوجه الثالث: في تفسير هذا اللفظ أن أهل العرف يقولون: فلان موزون الحركات أي حركات متناسبة حسنة مطابقة للحكمة، وهذا الكلام كلام موزون إذا كان متناسباً حسناً بعيداً عن اللغو والسخف فكان المراد منه أنه موزون بميزان الحكمة والعقل، وبالجملة فقد جعلوا لفظ الموزون كناية عن الحسن والتناسب، فقوله: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ شَيء مَّوْزُونٍ} أي متناسب محكوم عليه عند العقول السليمة بالحسن واللطافة ومطابقة المصلحة.
والوجه الرابع: في تفسير هذا اللفظ أن الشيء الذي ينبت من الأرض نوعان: المعادن والنبات: أما المعادن فهي بأسرها موزونة وهي الأجساد السبعة والأحجار والأملاح والزاجات وغيرها.
وأما النبات فيرجع عاقبتها إلى الوزن، لأن الحبوب توزن، وكذلك الفواكه في الأكثر والله أعلم. وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا معايش} فيه مسألتان:
المسألة الأولى: ذكرنا الكلام في المعايش في سورة الأعراف وقوله: {وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ برازقين} فيه قولان:
القول الأول: أنه معطوف على محل لكم، والتقدير: وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين.
والقول الثاني: أنه عطف على قوله: {معايش} والتقدير: وجعلنا لكم معايش ومن لستم له برازقين، وعلى هذا القول ففيه احتمالات ثلاثة:
الاحتمال الأول: أن كلمة من مختصة بالعقلاء فوجب أن يكون المراد من قوله: {وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ برازقين} العقلاء وهم العيال والمماليك والخدم والعبيد، وتقرير الكلام أن الناس يظنون في أكثر الأمر أنهم الذين يرزقون العيال والخدم والعبيد، وذلك خطأ فإن الله هو الرزاق يرزق الخادم والمخدوم، والمملوك والمالك فإنه لولا أنه تعالى خلق الأطعمة والأشربة، وأعطى القوة الغاذية والهاضمة، وإلا لم يحصل لأحد رزق.
والاحتمال الثاني: وهو قول الكلبي قال: المراد بقوله: {وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ برازقين} الوحش والطير.
فإن قيل: كيف يصح هذا التأويل مع أن صيغة من مختصة بمن يعقل؟
قلنا: الجواب عنه من وجهين:
الأول: أن صيغة من قد وردت في غير العقلاء، والدليل عليه قوله تعالى: {والله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مّن مَّاء فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى على بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِى على رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى على أَرْبَعٍ} [النور: 45].
والثاني: أنه تعالى أثبت لجميع الدواب رزقاً على الله حيث قال: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود: 6] فكأنها عند الحاجة تطلب أرزاقها من خالقها فصارت شبيهة بمن يعقل من هذه الجهة، فلم يبعد ذكرها بصيغة من يعقل، ألا ترى أنه قال: {يأَيُّهَا النمل ادخلوا مساكنكم} [النمل: 18] فذكرها بصيغة جمع العقلاء، وقال في الأصنام: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى} [الشعراء: 77] وقال: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33] فكذا هاهنا لا يبعد إطلاق اللفظة المختصة بالعقلاء على الوحش والطير لكونها شبيهة بالعقلاء من هذه الجهة وسمعت في بطن الحكايات أنه قلت المياه في الأودية والجبال واشتد الحر في عام من الأعوام فحكى عن بعضهم أنه رأى بعض الوحش رافعاً رأسه إلى السماء عند اشتداد عطشه قال: فرأيت الغيوم قد أقبلت وأمطرت بحيث امتلأت الأودية منها.
والاحتمال الثالث: أنا نحمل قوله: {وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ برازقين} على الإماء والعبيد، وعلى الوحش والطير، وإنما أطلق عليها صيغة من تغليباً لجانب العقلاء على غيرهم.
المسألة الثانية: قوله: {وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ برازقين} لا يجوز أن يكون مجروراً عطفاً على الضمير المجرور في لكم، لأنه لا يعطف على الضمير المجرور، لا يقال أخذت منك وزيد إلا بإعادة الخافض كقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ} [الأحزاب: 7].
واعلم أن هذا المعنى جائز على قراءة من قرأ: {تَسَاءلُونَ بِهِ والأرحام} [النساء: 1] بالخفض وقد ذكرنا هذه المسألة هنالك. والله أعلم.


{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)}
اعلم أنه تعالى لما بين أنه أنبت في الأرض كل شيء موزون وجعل فيها معايش أتبعه بذكر ما هو كالسبب لذلك فقال: {وَإِن مّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ}.
وهذا هو النوع الرابع من الدلائل المذكورة في هذه السورة على تقرير التوحيد، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال الواحدي رحمه الله: الخزائن جمع الخزانة، وهو اسم المكان الذي يخزن فيه الشيء أي يحفظ والخزانة أيضاً عمل الخازن، ويقال: خزن الشيء يخزنه إذا أحرزه في خزانة، وعامة المفسرين على أن المراد بقوله: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَآئِنُهُ} هو المطر، وذلك لأنه هو السبب للأرزاق ولمعايش بني آدم وغيرهم من الطيور والوحوش، فلما ذكر تعالى أنه يعطيهم المعايش بين أن خزائن المطر الذي هو سبب المعايش عنده، أي في أمره وحكمه وتدبيره، وقوله: {وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} قال ابن عباس رحمهما الله: يريد قدر الكفاية، وقال الحكم: ما من عام بأكثر مطراً من عام آخر، ولكنه يمطر قوم ويحرم قوم آخرون، وربما كان في البحر، يعني أن الله تعالى ينزل المطر كل عام بقدر معلوم، غير أنه يصرفه إلى من يشاء حيث شاء كما شاء.
ولقائل أن يقول: لفظ الآية لا يدل على هذا المعنى، فإن قوله تعالى: {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} لا يدل على أنه تعالى ينزله في جميع الأعوام على قدر واحد، وإذا كان كذلك كان تفسير الآية بهذا المعنى تحكماً من غير دليل.
وأقول أيضاً: تخصيص قوله تعالى: {وَإِن مّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ} بالمطر تحكم محض، لأن قوله: {وَإِن مِّن شيْءٍ} يتناول جميع الأشياء إلا ما خصه الدليل، وهو الموجود القديم الواجب لذاته، وقوله: {إلا عِندَنَا خَزَائِنُهُ} إشارة إلى كون تلك الأشياء مقدورة له تعالى. وحاصل الأمر فيه أن المراد أن جميع الممكنات مقدورة له، ومملوكة يخرجها من العدم إلى الوجود كيف شاء إلا أنه تعالى وإن كانت مقدوراته غير متناهية إلا أن الذي يخرجه منها إلى الوجود يجب أن يكون متناهياً لأن دخول ما لا نهاية له في الوجود محال فقوله: {وَإِن مّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ} إشارة إلى كون مقدوراته غير متناهية وقوله: {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} إشارة إلى أن كل ما يدخل منها في الوجود فهو متناه، ومتى كان الخارج منها إلى الوجود متناهياً كان لا محالة مختصاً في الحدوث بوقت مقدر مع جواز حصوله قبل ذلك الوقت أو بعده بدلاً عنه، وكان مختصاً بحيز معين مع جواز حصوله في سائر الأحياز بدلاً عن ذلك الحيز، وكان مختصاً بصفات معينة، مع أنه كان يجوز في العقل حصول سائر الصفات بدلاً عن تلك الصفات، وإذا كان كذلك كان اختصاص تلك الأشياء المتناهية بذلك الوقت المعين والحيز المعين، والصفات المعينة بدلاً عن أضدادها لابد وأن يكون بتخصيص مخصص وتقدير مقدر، وهذا هو المراد من قوله: {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} والمعنى: أنه لولا القادر المختار الذي خصص تلك الأشياء بتلك الأحوال الجائزة لامتنع اختصاصها بتلك الصفات الجائزة، والمراد من الإنزال الإحداث والإنشاء والإبداع كقوله تعالى: {وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الأنعام ثمانية أزواج} [الزمر: 6] وقوله: {وَأَنزْلْنَا الحديد} [الحديد: 25]، والله أعلم.
المسألة الثانية: تمسك بعض المعتزلة بهذه الآية في إثبات أن المعدوم شيء قال لأن قوله تعالى: {وَإِن مّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ} يقتضي أن يكون لجميع الأشياء خزائن، وأن تكون تلك الخزائن حاصلة عند الله تعالى، ولا جائز أن يكون المراد من تلك الخزائن الموجودة عند الله تعالى هي تلك الموجودات من حيث إنها موجودة، لأنا بينا أن المراد من قوله تعالى: {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} الإحداث والإبداع والإنشاء والتكوين، وهذا يقتضي أن يكون حصول تلك الخزائن عند الله متقدماً على حدوثها ودخولها في الوجود، وإذا بطل هذا وجب أن يكون المراد أن تلك الذوات والحقائق والماهيات كانت متقررة عند الله تعالى، بمعنى أنها كانت ثابتة من حيث إنها حقائق وماهيات، ثم إنه تعالى أنزل بعضها أي أخرج بعضها من العدم إلى الوجود.
ولقائل أن يجيب عن ذلك بقوله: لا شك أن لفظ الخزائن إنما ورد هاهنا على سبيل التمثيل والتخييل، فلم لا يجوز أن يكون المراد منه مجرد كونه تعالى قادراً على إيجاد تلك الأشياء وتكوينها وإخراجها من العدم إلى الوجود؟ وعلى هذا التقدير يسقط الإستدلال، والمباحثات الدقيقة باقية، والله أعلم.
أما قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ} فاعلم أن هذا هو النوع الخامس من دلائل التوحيد، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في وصف الرياح بأنها لواقح. أقوال:
القول الأول: قال ابن عباس: الرياح لواقح للشجر وللسحاب، وهو قول الحسن وقتادة والضحاك وأصل هذا من قولهم: لقحت الناقة وألقحها الفحل إذا ألقى الماء فيها فحملت، فكذلك الرياح جارية مجرى الفحل للسحاب.
قال ابن مسعود في تفسير هذه الآية: يبعث الله الرياح لتلقح السحاب فتحمل الماء وتمجه في السحاب، ثم إنه يعصر السحاب ويدره كما تدر اللقحة فهذا هو تفسير إلقاحها للسحاب، وأما تفسير إلقاحها للشجر فما ذكروه.
فإن قيل: كيف قال: {لَوَاقِحَ} وهي ملقحة؟
والجواب: ما ذهب إليه أبو عبيدة أن (لواقح) هاهنا بمعنى ملاقح جمع ملقحة وأنشد لسهيل يرثي أخاه:
لبيك يزيد يائس ذو ضراعة *** وأشعث مما طوحته الطوائح
أراد المطوحات وقرر ابن الأنباري ذلك فقال: تقول العرب أبقل النبت فهل باقل يريدون هو مبقل وهذا يدل على جواز ورود لاقح عبارة عن ملقح.
والوجه الثاني: في الجواب قال الزجاج: يجوز أن يقال لها لواقح وإن ألحقت غيرها لأن معناها النسبة وهو كما يقال: درهم وازن، أي ذو وزن، ورامح وسائف، أي ذو رمح وذو سيف قال الواحدي: هذا الجواب ليس بمغن، لأنه كان يجب أن يصح اللاقح. بمعنى ذات اللقاح وهذا ليس بشيء، لأن اللاقح هو المنسوب إلى اللقحة، ومن أفاد غيره اللقحة فله نسبة إلى اللقحة فصح هذا الجواب، والله أعلم.
والوجه الثالث: في الجواب أن الريح في نفسها لاقح وتقريره بطريقين:
الطريق الأول: أن الريح حاصلة للسحاب، والدليل عليه قوله سبحانه: {وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً} [الأعراف: 57] أي حملت فعلى هذا المعنى تكون الريح لاقحة بمعنى أنها حاملة تحمل السحاب والماء.
والطريق الثاني: قال الزجاج: يجوز أن يقال للريح لقحت إذا أتت بالخير، كما قيل لها عقيم إذا لم تأت بالخير، وهذا كما تقول العرب: قد لقحت الحرب وقد نتجت ولداً أنكد يشبهون ما تشتمل عليه من ضروب الشر بما تحمله الناقة فكذا هاهنا، والله أعلم.
المسألة الثانية: الريح هواء متحرك وحركة الهواء بعد أن لم يكن متحركاً لابد له من سبب، وذلك السبب ليس نفس كونه هواء ولا شيئاً من لوازم ذاته، وإلا لدامت حركة الهواء بدوام ذاته وذلك محال، فلم يبق إلا أن يقال: إنه يتحرك بتحريك الفاعل المختار، والأحوال التي تذكرها الفلاسفة في سبب حركة الهواء عند حدوث الريح قد حكيناها في هذا الكتاب مراراً فأبطلناها وبينا أنه لا يمكن أن يكون شيء منها سبباً لحدوث الرياح، فبقي أن يكون محركها هو الله سبحانه.
وأما قوله: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بخازنين} ففيه مباحث: الأول: أن ماء المطر هل ينزل من السماء أو ينزل من ماء السحاب؟ وبتقدير أن يقال إنه ينزل من السحاب كيف أطلق الله على السحاب لفظ السماء؟.
وثانيها: أنه ليس السبب في حدوث المطر ما يذكره الفلاسفة بل السبب فيه أن الفاعل المختار ينزله من السحاب إلى الأرض لغرض الإحسان إلى العباد كما قال هاهنا: {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} قال الأزهري: تقول العرب لكل ما كان في بطون الأنعام ومن السماء أو نهر يجري أسقيته أي جعلته شرباً له، وجعلت له منها مسقى، فإذا كانت السقيا لسقيه قالوا سقاه، ولم يقولوا أسقاه. والذي يؤكد هذا اختلاف القراء في قوله: {نُّسْقِيكُمْ مّمَّا فِي بُطُونِهِ} [النحل: 66] فقرؤا باللغتين، ولم يختلفوا في قوله: {وسقاهم رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} [الإنسان: 21] وفي قوله: {والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء: 79] قال أبو علي: سقيته حتى روي وأسقيته نهراً، أي جعلته شرباً له وقوله: {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} أي جعلناه سقياً لكم وربما قالوا في أسقى سقى كقول لبيد يصف سحاباً:
أقول وصوبه مني بعيد *** يحط السيب من قلل الجبال
سقى قومي بني نجد وأسقى *** نميرا والقبائل من هلال
فقوله: سقى قومي ليس يريد به ما يروي عطاشهم ولكن يريد رزقهم سقياً لبلادهم يخصبون بها، وبعيد أن يسأل لقومه ما يروى العطاش وليغرهم ما يخصبون به.
وأما سقيا السقية فلا يقال فيها أسقاه، وأما قول ذي الرمة:
وأسقيه حتى كاد مما أبنه *** تكلمني أحجاره وملاعبه
فمعنى أسقيه أدعو له بالسقاء، وأقول سقاه الله وقوله: {وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بخازنين} يعني به ذلك الماء المنزل من السماء يعني لستم له بحافظين.


{وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)}
اعلم أن هذا هو النوع السادس من دلائل التوحيد وهو الاستدلال بحصول الإحياء والإماتة لهذه الحيوانات على وجود الإله القادر المختار.
أما قوله: {وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ} ففيه قولان: منهم من حمله على القدر المشترك بين إحياء النبات والحيوان ومنهم من يقول: وصف النبات بالإحياء مجاز فوجب تخصيصه بإحياء الحيوان ولما ثبت بالدلائل العقلية أنه لا قدرة على خلق الحياة إلا للحق سبحانه كان حصول الحياة للحيوان دليلاً قاطعاً على وجود الإله الفاعل المختار، وقوله: {وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ} يفيد الحصر أي لا قدرة على الإحياء ولا على الإماتة إلا لنا، وقوله: {وَنَحْنُ الوارثون} معناه: أنه إذا مات جميع الخلائق، فحينئذ يزول ملك كل أحد عند موته، ويكون الله هو الباقي الحق المالك لكل المملوكات وحده فكان هذا شبيهاً بالإرث فكان وارثاً من هذا الوجه.
وأما قوله: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستقدمين مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستئخرين} ففيه وجوه:
الأول: قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء: المستقدمين يريد أهل طاعة الله تعالى والمستأخرين يريد المتخلفين عن طاعة الله.
الثاني: أراد بالمستقدمين الصف الأول من أهل الصلاة، وبالمستأخرين الصف الآخر، روي أنه صلى الله عليه وسلم رغب في الصف الأول في الصلاة، فازدحم الناس عليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية، والمعنى: أنا نجزيهم على قدر نياتهم.
الثالث: قال الضحاك ومقاتل: يعني في وصف القتال.
الرابع: قال ابن عباس في رواية أبي الجوزاء كانت امرأة حسناء تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قوم يتقدمون إلى الصف الأول لئلا يروها وآخرون يتخلفون ويتأخرون ليروها وإذا ركعوا جافوا أيديهم لينظروا من تحت آباطهم فأنزل الله تعالى هذه الآية.
الخامس: قيل المستقدمون هم الأموات والمستأخرون هم الأحياء. وقيل المستقدمون هم الأمم السالفة، والمستأخرون هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال عكرمة: المستقدمون من خلق والمستأخرون من لم يخلق.
واعلم أنه تعالى لما قال: {وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ} أتبعه بقوله: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستقدمين مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستئخرين} تنبيهاً على أنه لا يخفى على الله شيء من أحوالهم فيدخل فيه علمه تعالى بتقدمهم وتأخرهم في الحدوث والوجود وبتقدمهم وتأخرهم في أنواع الطاعات والخيرات ولا ينبغي أن نخص الآية بحالة دون حالة.
وأما قوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ} فالمراد منه التنبيه على أن الحشر والنشر والبعث والقيامة أمر واجب وقوله: {إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} معناه: أن الحكمة تقتضي وجوب الحشر والنشر على ما قررناه بالدلائل الكثيرة في أول سورة يونس عليه السلام.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8